الجمعة، 11 مارس 2011

لبنان ليس مصر / جريدة البلد اللبنانية/ 11/03/2011


تختلف ديناميات التغيير وآلياته في النظم السياسية باختلاف آليات الحكم وتوزيع السلطة فيه ، بالإضافة إلى المرتكزات السياسية التي يقوم عليها هذا النظام أو ذاك . وعليه فإن ما جرى في مصر وتونس ليس من الضروري أن ينجح في لبنان .
فبالعودة إلى التاريخ الحديث لمصر، وخصوصا بعد ثورة 23 يوليو التي اطاحت بحكم الملك فاروق، نرى أن الشعب المصري قد استمر في تبني قيادات الثورة التي انتقلت من الفريق محمد نجيب إلى الرئيس جمال عبد الناصر ، وهذا ما تجلى في ردات الفعل المصرية والعربية على خطاب التنحي بعد هزيمة 1967 وفي حالة الصدمة والحزن التي عمت وفاته.
أما فترة حكم كل من السادات و مبارك فقد اتسمت بالتناقض مع الوجدان المصري العام ، الأمر الذي ادى إلى تكوين رأي عام معارض موحد في حده الأدنى ،الأمر الذي جعل من المصريين شعبا واحدا يريد الخلاص من نظام واحد لأسباب موحدة بين الجميع كانت الديمقراطية والحرية من أبرزها.
تؤكد التجربة المصرية أن نجاح عملية التغيير تتأثر  بطبيعة علاقة المواطن بالسلطة من الناحية الدستورية القانونية و بوحدة بواعث التحرك التغييري.
أما في لبنان ، الذي يرى قسم من أبنائه بأنه جزء من سوريا الكبرى بينما يعتبره قسم آخر كيانا مستقلا، والتي تتأرجح فيه الهوية بين العروبة والوجه العربي، و يحتار بين نهائية مجهولة الإنتماء والعقيدة، وبين ظرفية العبور إلى الدولة الإسلامية العالمية، في بقعة كلبنان تختلف الرواية وتتعقد قواعد اللعبة. فلبنان بلد متعدد الطوائف، تتقاطع فيه مصالح دولية وإقليمية ، وتقوم علاقات بين دول خارجية وأطراف لبنانية ،فتستحيل الطوائف قواعد متقدمة لهذه الدول أو تلك .
من فتنة 1860 مرورا بإلغاء امتيازات المتصرفية وصولا إلى الخلل الديموغرافي الذي سببته ولادة لبنان الكبير 1920، ظروف أرست اختلافا في الرؤية اللبنانية إلى المشاكل وحلولها . كما أن تماهي المسيحيين أو قسم منهم مع فرنسا الأم الحنون أقل تأثيرا من تماهي المسلمين مع الجمهورية العربية المتحدة والمد الناصري ،. الأمر نفسه ينطبق على علاقة اللبنانيين بمنظمة التحرير الفلسطينية عقب توقيع اتفاق القاهرة عام 1969. فبينما اعتبر المسيحي اللبناني نفسه مقاوما ومدافعا عن وجوده ، كان المسلم اللبناني يراه واجبا قوميا.
أما في فترة الحرب الأهلية بالإضافة إلى الإحتلال الإسرائيلي وتداعياته ، فقد أوجدت في المجتمع اللبناني قيادات جديدة ومفاهيم جديدة في علاقة اللبنانيين فيما بينهم حيث أصبحت الطائفية ظاهرة إجتماعية بعد أن كانت سياسية بحتة.
في فترة ما بعد اتفاق الطائف الذي زرع في الدستور اللبناني تعديلات هجينة انبتت انقساما طائفيا مقننا ومدسترا إذا جاز التعبير واستدعت وصاية خارجية تنظم الإنقسام . ثم فترة ما بعد الإنسحاب الإسرائيلي الذي زاد من اختلال موازين القوى في الداخل وتاليا في الخارج، حيث الإستثمار السياسي الداخلي والإقليمي للإنتصار اللبناني ذو الصبغة الشيعية ، هذا الخلل الذي لم يجد لتعديله مدخلا أو مسببا سوى جريمة بحجم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، التي نعيش اليوم مرحلة تداعياتها.
يظهر بعد هذا السرد المختصر أنه ليس في لبنان اليوم شعب واحد ينظر إلى نظامه وقضيته بعين واحدة. كما يظهر وجود ترابط وجداني حقيقي وليس بالضرورة أن يكون محقا بين القيادات وبين غالبية الشعب اللبناني.
 وهنا نسأل بكل محبة أولئك الشباب المتحمسين في حملة إسقاط النظام : هل لدى اللبنانيين نظرة واحدة إلى عيوب هذا النظام وسبل إصلاحه وبدائله؟؟؟ هل يرى أولئك الشباب أن المشكلة هي في طائفية النظام فقط؟؟ وأن إلغاء الطائفية هو الحل الكافي والشافي للأزمة اللبنانية؟؟هل يرضى بعض اللبنانيين بإلغاء الطائفية ؟؟
لبنان ليس مصر واللبنانيون ليسوا المصريين، لبنان محل إقامة لسكان لبنانيين ، ومصر دولة يسكنها شعب مصري يتفق أول ما يتفق على سرد التاريخ المصري من ألفه إلى يائه والمفاخرة به. .

مصر الجديدة والمشرق العربي الجديد/ جريدة النهار اللبنانية 7/03/2011


 أما وقد تحقق الحلم المصري في التغيير والتحرر، فإن الأنظار تنشد منذ اللحظة إلى المشهد السياسي العام في المنطقة العربية وإلى انعكاس عودة ثمانين مليون عربي إلى ميدان العمل العربي المشترك سواء في العلاقات العربية - العربية أم في ميزان القوى المتصل بالصراع العربي - الإسرائيلي.
إن الإنعكاس المنتظر أو المرتقب للتغيير الحاصل في مصر إنما ينسحب في نظرنا على خمسة جوانب رئيسية منها المحلي المصري ومنها الإقليمي والدولي وهذه الإنعكاسات هي:
أولا: تفاعل الشعب المصري مع حريته المستعادة بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود من القمع الفكري والسياسي الذي استوجبه فرض معاهدة "كمب ديفيد" من جهة وضمان استمرار الحاكم الفرد في إمساك مفاصل السلطة ومصادرها ونهب ثرواتها من جهة ثانية. أن الشعور الجديد بالحرية يعني ولادة جديدة للهوية المصرية العربية سواء على المستوى الفردي للمواطن المصري أم على مستوى الدور السياسي المصري العام. إن النخب المصرية على اختلاف مشاربها وعقائدها لا شك سوف تتفاعل إيجابا معا في تنافس طبيعي وديموقراطي لا بد وأن يتبلور في مشاريع سياسية تتجسد بدورها طبقة سياسية واعية واعدة تستطيع أن تعوض للمصريين ما فاتهم طوال العقود الثلاثة المنصرمة من الإجحاف في الحقوق السياسية والفكرية وحتى المعيشية في حدها الأدنى.
ثانيا: إنعكاس التغيير المصري على الدور المصري ضمن المنظومة العربية على المستوى السياسي وضمن الوجدان العربي التائق إلى أبسط مظاهر القوة والحرية.
فالنظام المصري المندحر قد أبعد مصر عن مسار الأحداث العربية الداخلية وصار الدور المصري ملحقا في غالب الأحيان بالدور السعودي. وإذا لاحظنا الأزمات المتعاقبة التي حلت بالسودان والذي يشكل المدى الحيوي والإستراتيجي الأهم لمصر، نجد أن الدور المصري غائب أو غير فاعل على الأقل في انكفاء أشبه بانشغال الرجل المريض بتفاصيل مرضه وعلاجه، في حين نرى أن دولة قطر ذات المليون مواطن ونيف تلعب دورا محوريا في مختلف القضايا والأزمات التي تحيط بها وإن لم تكن على تماس مع مصالحها القومية المباشرة.
ثالثا: حتمية تأثير تغيير السلطة في مصر على علاقتها بالكيان الإسرائيلي. فالوجدان المصري العربي العام وإن تأثر بعوامل القهر السياسي الذي مارسه النظام الأمني وبالفقر المدقع المتأتي من الفساد وسوء الإدارة وسياسة التجويع، إلا أنه لا شك وجدان تتجذر فيه المشاعر والقيم القومية العربية بالإضافة إلى الإحساس بالمسؤولية إزاء القضايا العربية المشتركة، لا سيما ما يتصل منها بالصراع العربي - الإسرائيلي.فإذا استطاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصفته اليوم المؤتمن على استيلاد الشرعية الدستورية والشعبية وتكريس الديمقراطية في السلطة العتيدة، إذا استطاع هذا المجلس أن يمهد لمجلس نيابي جديد صحيح التمثيل فإنه لا شك لن يتغاضى عن تعديل المعاهدات والإتفاقيات المعقودة مع الكيان الإسرائيلي إن لم نقل إلغائها.
إن الموقف المنتظر من الحكومة المصرية العتيدة والمنبثقة عن الظروف الجديدة سيكون الموقف المفصل في إعادة رسم خريطة المنطقة وصياغة موازينها وتوزيع الأدوار السياسية فيها. فمعادلة لا حرب من دون مصر لم تعد قائمة ولم يعد للغول الإسرائيلي حرية التحرك والشعور بالأمان، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تأكيد الهوية العربية للمنطقة بأسرها بكونها منطقة المشرق العربي لا الشرق الأوسط الجديد.
رابعا: يتمثل الإنعكاس الرابع للتغيير المصري باستعادة القومية العربية للوهج الذي افتقدته لعقود خلت لا سيما بعد رحيل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبعد مسلسل الهزائم و الإخفاقات العربية الذي انتقلت من الميدان إلى الداخل العربي عبر المعاهدات الجائرة بدءا من "كمب ديفيد" مرورا بوادي عربة ووصولا إلى أوسلو ناهيك عن تبرع بعض الدول بفتح مكاتب تمثيلية لإسرائيل في ضربة إضافية لأبسط مظاهر التضامن العربي مما انعكس إحباطا عربيا وكفرا بالقومية العربية وبالإنتماء لها. إن استعادة هذا الوهج للقومية العربية لا يعني في نظرنا نظم القصائد والتغني بالأمجاد، إنما نراه انتشاراً للشعور القومي العربي العام بالإنتماء إلى هوية عربية واحدة تتعدد في إطارها الإنتماءات القطرية والمعتقدات الدينية والمذهبية.
إن من أهم أسباب بروز وانتشار الحركات الأصولية واستشراء الفتن المذهبية هو انهزام المشروع العربي في مواجهة إسرائيل وفشل الأنظمة العربية في قيادة هذا المشروع أو على الأقل في اتخاذ موقف عربي موحد إزاءه.لقد قايض معظم القادة العرب مع دول النفوذ والإستعمار ضمان إستمراريتهم في الحكم مقابل التخلي عن القضية العربية المحورية التي كانت قبلة أنظار المناضلين العرب وعروس الشعر الوحيدة. وبالمراجعة السريعة لحركات التحرر الشعبية نلاحظ تعاظم الدور الأيديولوجي الديني في رفد تلك الحركات كالثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان وحركتي "حماس" و"الجهاد" في فلسطين دون أن ننسى الإنتشار المتزايد للإخوان المسلمين في كل من مصر وسوريا والأردن وكذلك حركات التحرر في الجزائر واليمن والمقاومات العراقية غير معروفة العدد. ولو لاحظنا في المقابل انشداد الشارع العربي بكل تلاوينه الدينية والمذهبية والسياسية للحدث المصري،بالإضافة إلى الموقف الإيراني ولو اختلف القصد والمنطلق، للمسنا كيف طغى الشعور الإنساني والقومي على ما دونه من انتماءات حيث اتسعت العباءة القومية لكل المذاهب والتيارات.
وفي مشهد آخر فإننا لا نرى الإنجاز المصري الذي كان بالأمس القريب شارعا سنيا بأقل أهمية من الإنجاز اللبناني العظيم في تحرير الأرض والذي ألبس بدوره لبوسا شيعيا، الأمر الذي يدحض المزاعم التي تحتكر لهذا المذهب أو ذاك القدرة على قيادة المجتمع نحو التحرر أو نحو مقاومة العدو الإسرائيلي حيث يلتقي "حزب الله" في لبنان مع "حماس" في فلسطين المحتلة. وعليه فإنه بإمكان الشعور القومي في ما لو استعاد وهجه وحضوره نفسيا في الوجدان العربي وعمليا في ميدان الصراع وميزان القوة، بإمكان هذا الشعور أن يخفف من غلواء الطائفية والمذهبية تمهيدا لمحوها من النفوس.
خامسا: يتجلى الإنعكاس الخامس للحركتين التونسية والمصرية في ظهور بشائر انتقال عدوى التحرر في العديد من الدول التي بادر حكامها إلى إجراء الإصلاح أو إعطاء المعونات أو توسيع هامش الحرية السياسية لبعض الناشطين. والأهم من ذلك هو استنشاق المواطن العربي لهواء الحرية.
إن الأمل معقود اليوم على نجاح الثورة المصرية في تكريس التغيير الحاصل على مستوى الرئاسة لترسيخه عموديا وأفقيا، فعودة ثمانين مليون عربي إلى الساحة سيفرض على الجميع في الداخل والجوار وفي الخارج إعادة النظر في تقاطع المصالح وبالتالي في رسم السياسات والأهداف،الأمر الذي لا شك سيغير وجه المنطقة ويصوب وجهتها.
في الختام لا بد من توجيه التحية إلى الشعبين التونسي والمصري الذين قد يكونا فتحا للأمة بابا لاستعادة مجد تشتاق إليه. المجد للشهداء اللذين سقطوا في لبنان ومصر وتونس وفلسطين لتحيا أوطانهم.