في ذكرى رحيل كامل الأسعد
كثيرة هي الاسئلة المسهجنة التي كنت أسمعها من كثيرين. فأنت شاب في مقتبل العمر
ولديك مستقبل تبحث عنه وتعمل لأجله فماذا يدعوك للإنخراط في خط سياسي لا أفق له
ولا مجال في ساحة سياسة اليوم، وماذا يغريك في العمل مع رجل سياسة تقليدي في العقد
السابع من عمره ، والمقصود هنا هو الزعيم اللبناني رئيس مجلس النواب اللبناني الأسبق، الرئيس
الراحل كامل الأسعد .
لا زالت تتأكد صحة أجوبتي مع الأيام وإن عزَّ
الثمن . أن تكون إلى جانب كامل الأسعد في تلك
المرحلة فيه الكثير من التضحية والقليل القليل من المغانم السياسية لكن ما
استهواني للمضي في هذا الخط رغم وعورة المسلك هو ما أحب المرور عليه في الذكرى
الثالثة لرحيله.
لم يكن ذلك الرجل السبعيني يقل عن الشباب
حيوية ونشاطا في الرياضة والسباحة والأناقة المتجددة، وكان في داخله قلب طفل صغير
يرق لأبسط المشاهد الوجدانية ، لا يعرف الحقد ولا يكره إلا الكراهية.
لا يستطيع من يعرف هذا الرجل-أحبه أم لم يحبه-أن
ينكر عليه هيبته وحضوره، فكامل الأسعد، صاحب الكاريزما المميزة والإطلالة الآسرة
والنظرة الحازمة، بقي على حاله إلى آخر يوم عاشه. لم تكن تلك المواصفات الشخصية
عنده من إضافات السلطة ولا من مكامن النفوذ، بل كانت تعبيرا صادقا عن شخصية متميزة
صلبة صاغتها تربية صارمة ورفدتها زعامة أصيلة وبلورتها تجارب ومواقف متميزة فريدة.
جعلتني الثقة المطلقة التي منحني إياها في
مختلف الملفات التي توليتها على تواضعها، جعلتني أرتبك في حمل أمانة المال،
فالأمانة حمل ثقيل، إلى أن لاحظ ذلك في تصرفي ليقول: أنا أثق بك أكثر مما تتصور
،وإن كنت أدقق في الأمور المالية فذلك لقلة المال لدي ليس إلا. أورد هذه الحالة
لأشير الى واحدة من مزايا هذا الرجل الذي لا قيمة للمال لديه إلا لتيسير الأمور،
كان يأبى الهدايا والعطايا والأرقام المغرية معتبرا أن لا قيمة في الكون تعادل
حريته واستقلاليته التي لم تكن موضع انكار من أحد. رفض المال السياسي بعد أن رفض
المال العسكري – إذا صح التعبير- واكتفى بغنى النفس حصانة كافية، ولعلي أكشف ما
كنت أعرف من الأسرار بأن ما بقي من مال في
حسابات كامل الأسعد بعد رحيله لم يصمد لذكرى أربعينه .
كامل الاسعد أرجع مع سفير ذلك الملك حقيبة
كبيرة مليئة بالمال ،محملا إياه رسالتة مختصرة للملك : أنا أملك ما يكفيني من
المال ، وحين أحتاج لن أتردد في طلب المساعدة فنحن أصدقاء. كامل الأسعد هو من رد
على موفد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي طلب تأجيل موعده ساعتان بحجة
استقبال نائب وزير الخارجية الأميركي قائلا: بعد ساعتان لدي موعد مع نائب رئيس
بلدية بلدة جنوبية ويجب أن أراه، ذهل ذلك الموفد،راجع رئيسه وعاد مثبتا موعد كامل
الأسعد .
كامل الأسعد الذي عارض السياسة السورية في
لبنان في موقف مبدئي باهظ الثمن ، صرح لجريدة النهار بعد خروج سوريا من لبنان بأنه
يرفض مهاجمة سوريا بعد خروجها من لبنان شبه مهزومة، فهذا ليس من شيمه.
كامل الأسعد العدو الأول للصهيونية، عرف
مخططاتها الرامية الى افتعال الفتن الطائفية والمذهبية في لبنان والمشرق العربي ،
نبه لذلك مرارا وتكرارا، وواجه تلك المخططات بما يتعارض مع مصالحه السياسية، فعند
هبوب رياح الخلافات كان يتصرف كأم الصبي حتى صوروه متخليا عن حقوق طائفته وهو
الواثق بأن حقوق كل الطوائف تتحقق ببقاء الوطن.
كامل الأسعد هو الذي قال لأحد المسؤولين عن
أمنه حين كان رئيسا لمجلس النواب : أنا سأنزل الى المجلس ولو تحت القصف فهناك مصير
بلد يجب أن يتقرر، وإذا كنت خائفا فلا ترافقني . وهو الذي أبقى المؤسسة الشرعية
الأم موحدة رغم انقسام اللبنانيين وتعدد الجبهات والمتاريس.
كان قد وعدا مرشحا بأخذه على لائحته ثم جاءه
آخر أوفر حظا وأوسع تمثيلا، لكنه جاء متأخرا ربما لمناورة كان يجريها، كان جواب
كامل بك: انا وضعت يدي بيد فلان فإما أن تقطع وإما أن يسحب فلان يده أما أنا فلن
أفعل.. ما تواخذني.
كان الرئيس الراحل غاضبا إزاء ما فعله
الإسرائيليون في مخيم جنين ذات يوم وصادف أن اتصل احد المسؤولين في السفارة
الأميركية قائلا: سعادة السفير يسلم عليكم وهو يرغب بلقائكم في اليوم الفلاني
والتوقيت الفلاني. الرد كان حاسما وصاعقا ، قل لسعادة السفير بأنه إذا رغب بزيارتي
يطلب الموعد وأنا الذي أحدده إذا كنت أرغب في استقباله وأنا الآن لا أرغب .
لمحات بسيطة هي غيض من فيض من سيرة زعيم
لبناني كان الحظ أكبر أعدائه وكانت القضية أكبر همومه، ولعل كل ما يجري اليوم على
الساحة اللبنانية من تخبط مؤسساتي وهرطقات دستورية وانقسام عمودي غير مسبوق وإثراء
غير مشروع، كل ذلك دليل على ما كانت تمثله تلك الشخصية من مسؤولية في القيادة وصدق
في المسؤولية .
سامي الجواد